ما انفكت الخيمة، بما هي رمز مادي وثقافي يحيل الى مرحلة البداوة، تلقى حضوراً في فضاء المدينة اليمنية في شكل يثير التساؤل حول حقيقة التحول الاجتماعي الذي تشهده المنطقة العربية خصوصاً. وحضور الخيمة لا يأتي في الغالب، في إطار الاستخدام الفولكلوري أو من باب الاهتمام بالتراث بل يؤشّر الى سلوكيات قديمة ما زالت تجد لها في المجتمعات الحديثة موطئ قدم.
بقايا قمامة ورائحة نشادر خلفتها جماعة مناصرة للحزب الحاكم كانت نصبت خيامها في ميدان التحرير، وسط العاصمة صنعاء، لمدة أربعة أيام. وتحديداً أثناء المواجهة السياسية التي شهدتها صنعاء الأسبوع الماضي، ما بين حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب المعارضة، حيث عمد كل طرف إلى حشد اتباعه وأنصاره في تظاهرات متقابلة (مؤيدة أو معارضة للرئيس).
وإن باتت مظاهر الاعتراك السياسي أمراً مألوفاً، بما فيها وقوع صدامات عنيفة، بيد أن اللافت استمرار حضور الخيمة، بما هي رمز مادي وثقافي ينتمي إلى البدو والبداوة، ويثير امتداد الخيمة في الفضاء الحضري التساؤل حول حقيقة التمدن ومدى حضور الثقافة البدوية في سلوك الجماعات الاجتماعية في المجتمعات الحضرية.
ولا يقف استخدام الخيمة على المجال السياسي من قبيل ما حصل الأسبوع الماضي، أو خيمة المقاومة، وهي ملتقى للنشاطات المناصرة للشعب الفلسطيني، بل أن استخدامها يمتد ليدل على قضايا اجتماعية ومطلبية.
وبات مألوفاً مشاهدة شخص أو جماعة وقد نصب، أو نصبت، خيمة في العقار الذي قد يتعرض للسلب والاغتصاب أو أمام مكتب النائب العام. وعادة ما ينصب البعض خيامهم أمام دار الرئاسة (مقر رئيس الجمهورية)، لأغراض مطلبية واحتجاجية من قبيل المطالبة بالإفراج عن اسرى. ويُصاحب ذلك عادة تعليق لافتات على الخيمة أو صور أحكام قضائية وأحياناً صور فوتوغرافية لقتلى قضوا ظلماً بحسب ما يقول المحتجون أو الأسر. وجميعها تؤشر الى طبيعة القضية التي نصبت من أجلها الخيمة أو الخيم، بما من شأنه لفت انتباه المسؤولين والرأي العام.
وعلى رغم محدودية أعداد الجماعات البدوية في اليمن، وتمركزها في أطراف الصحراء مثل حضرموت ومأرب وبعضها صار يتخذ مساكن أخرى غير الخيمة ويعمل في مجالات جديدة مثل التجارة والتهريب، إلا أن من اللافت الحضور الذي ما زالت تكتسبه الخيمة في المدن خصوصاً في صنعاء.
ودرج معظم الأسر على إقامة حفلات الإعراس والمآتم في خيم تنصب لهذا الغرض في الحارة أو على الشارع العام ما يؤدي إلى إقفاله، وقليلة هي الأسر التي تلجأ إلى ذلك بسبب قلة المال، فمعظم الخيم تنصب متوازية مع حفلات أخرى تقام في صالات الإعراس مثلاً.
ومن المرجح أن الأمر يعود إلى مفاعيل الثقافة البدوية واستمراريتها لدى الجماعات الاجتماعية التي، وان باتت تقطن مساكن حديثة ومبالغ في عصريتها أحياناً، إلا أن ميكانيزمات الثقافة البدوية ما زالت تكمن في الوعي واللاوعي ويجري تمثلها من خلال السلوك.
وتبعاً للأدبيات الانثربولوجية (علم الإناسة) تشير الخيمة، بما هي رمز مادي وثقافي، إلى الترحال وعدم الاستقرار. وينطوي مفهوم الزواج ومثله الوفاة، على معنى الانتقال الى حياة جديدة أو إلى الآخرة. وتحفل حياة اليمنيين برموز تنتمي إلى حقب قديمة، ومن ذلك زواج الأقارب وزواج «الشغار»، وهو زواج يشترط فيه كل واحد من الوليين نكاح الاخرى فيقول احدهما للآخر، زوجني ابنتك وأزوجك بنتي او زوجني اختك ازوجك اختي، او زوج ابني وانا ازوج ابنك، وغيره... وهو زواج ينتمي إلى اقتصاد المقايضة ويخلو من المهر.
ومن الرموز العتيدة المستمرة صيد الوعول وتزيين المنازل برؤوس حيوانات. لكن ما يثير الانتباه هو حضور الرموز القديمة في الحياة السياسية والاجتماعية في شكل يعطّل أحياناً القوانين.
ودرج سياسيون ومواطنون على الاحتكام الى تقاليد قديمة، في حل نزاعاتهم بدلاً من اللجوء إلى القانون. وسجلت أخيراً حادثة خلاف بين قيادي ينتمي إلى المعارضة (اللقاء المشترك) وبين مسؤول حكومي تم خلالها اللجوء الى ما يعرف بالهجر والتحكيم القبلي لحل النزاع. وبات شائعاً لجوء افراد وجماعات تنتمي الى المدينة الى ذبح الثيران في ما يعرف بالهجر. والمفارقة أن بعض المثقفين صار يعتبر الثأر قانوناً ناجعاً للحد من الجريمة.
ونادرة هي حالات استخدام الخيمة في التنزه والرحلات. ومنذ العام الماضي فقط بدأ البعض يؤجر خيماً للمتنزهين الذين يرتادون الشواطئ مثل ساحل العشاق في عدن. ولكن الملاحظ هو أن قلة قليلة تستأجر هذه الخيم، ويُفضّل الكثيرون البقاء في سياراتهم أو في الخلاء.
وما فتئت مدلولات ثقافة الحقب القديمة، تلقي بظلالها على حياة المجتمعات المعاصرة. ليست وحدها «بيروت خيمتنا الوحيدة»، كما يقول الشاعر الراحل محمود درويش في إحدى قصائده، بل المؤكد أن المجتمع العربي ما زال يتشرب ثقافة الخيم والترحال، وإن قطن عمارات وأبراجاً شاهقة.
تعليقات